البداية والتطور الشكلي:
وإذا كانت مهمة التعليم الديني العالي التي اضطلع بها مسجد الزيتونة سنين طويلة قد ختمت بإنشاء جامعة الزيتونة عام 1961م، وفيها كليتا الشريعة وأصول الدين، فإن بداية التعليم فيه تعود إلى أوائل القرن الثالث الهجري حينما يتردد على أسماعنا اسم أبي البشر زيد بن بشر الأزدي أحد العلماء المحدثين من أبناء تونس.
لكن في عهد بني حفص تبدل حال التعليم من نظام قديم يعتمد على المبادرة الشخصية للعلماء والرغبة القوية عند الطلبة، إلى نظام متطور يلتزم به المدرسون والدارسون التزاماً تاماً، فقد فرضت الدولة الحفصية على العاملين في جامع الزيتونة قوانين تعليمية ملزمة، وجعلت له أوقافاً مجزية، مستفيدة من الظروف التاريخية التي ألجأت الكثير من العلماء والنابهين الأندلسيين ـ بعد سقوط الأندلس ـ إلى اللجوء إلى تونس حتى غدا مسجد الزيتونة منذ ذلك الحين المركز العلمي الذي تدرس فيه العلوم الإسلامية على اختلاف أصولها وفروعها مع علوم الطب والهندسة والرياضيات.
عرف الجامع إذ ذاك ثلة كريمة من العلماء المتفردين في علومهم أمثال ابن عصفور والقاضي ابن عبد السلام وابن عرفة وابن خلدون والبرزلي والآبي وابن ناجي وغيرهم.
أقدم جامعة في العالم:
ومما يدلنا على بعض تلك التقاليد العلمية والأنظمة الإدارية أن الباي المشير أحمد باشا أصدر سنة 1258هـ أمراً بانتخاب 15 عالماً من الأحناف، ومثل عددهم من الموالك، يقوم كل واحد منهم بإعطاء درسين مما يطلب منه من العلوم.
وخَصص لكل واحد من هؤلاء العلماء راتباً شهرياً يبلغ 60 ريالاً يحرم منها من يتخلف عن التدريس لغير عذر شرعي...
ونتيجة استمرار التعليم في جامع الزيتونة على نظام معين، واعتماده الشمولية والتعددية في العلوم والفنون ووجود طرق محددة لامتحان الطلبة وتخريجهم، ووجود الموارد المالية الكافية لذلك منذ القديم يذهب البعض إلى أن جامع الزيتونة ـ بحق ـ هو أقدم جامعة في العالم.
وكان المتخرجون من جامع الزيتونة يطلق عليهم لقب (الزيتوني).
والزيتوني في المجتمع التونسي كان يتمتع بمقام مرموق لأنه أعَدْل القرية التي هو فيها، وهو الذي يبرم عقود البيع والشراء والإجارة والأنكحة، إضافة إلى كونه إمام المسجد والمدرس والواعظ وكاتب الرسائل الخاصة... وهو أيضاً العالم الشاعر الأديب... الخ.
المكتبة القيمة:
ولا ننسى أن ننوه بإعجاب إلى مكتبة جامع الزيتونة التي كانت عامرة منذ القديم، حتى وصل ما فيها إلى ما يزيد على مئتي ألف مجلد في قمة مجدها.
وقد حفظ لنا التاريخ أن أبا فارس عبدالعزيز الحفصي أنشأ عام 696هـ خزانة (مكتبة) الكتب التي بلغت مجلداتها في أيامه ما ينيف على ثلاثين ألف مجلد، زين بها صدر الجامع، وأوقفها على العلماء والمتعلمين، وحبس (أي أوقف) عليها ما تحتاجه ومن يعمل فيها للاستمرار.
كما يذكر التاريخ في هذا المجال السلطان عثمان بن محمد المنصور الذي جمع سنة 839هـ
مكتبة أخرى:
في مسجد الزيتونة تقارب المكتبة السابقة، وبنى لها مقصورة واسعة عرفت باسم مقصورة الكتب.
ومثل هذين الأميرين فعل السلطان محمد بن الحسن سنة 899هـ
إلا أن ما لا ينسى بخصوص مكتبة جامع الزيتونة تلك الجريمة الحضارية النكراء التي ارتكبها جنود الأسبان سنة 970، عندما استباحوا حرمة مسجد الزيتونة ضمن هياج عام لهم في تونس، فأطلقوا أيديهم في إتلافها، حتى صارت نفائس الكتب ملقاة في الطرق تدوسها خيلهم بأرجلها.
كما قاموا بسرقة كثير منها ونقله إلى أسبانيا أو إلى مكتبة البابا... ولا تزال خطوط وقفها على مسجد الزيتونة مثبتة عليها إلى اليوم. تنعي الأسبان جريمتهم وتثبت للمسلمين حقهم.
واستمرت دموع مسجد الزيتونة تبكي مكتبته المنكوبة ردحاً من الزمن حتى كان عهد أبي العباس أحمد باي من الملوك الحسنيين فأعاد لها نضارتها وجددها واعتنى بها، فعرفت المكتبة الموجودة هناك باسم المكتبة الأحمدية نسبة إليه.
المصدر: موقع أوقاف نت - الكويت